لك اللهم الحمد بالقرآن، لك اللهم الحمد باللسان والجنان والأركان، وأصلي وأسلم على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ما تتابع الجديدان، وبعد:
أيها القارئ الكريم إليك دعوة محب. دعوة أن نعيش حياتنا مع القرآن، لا كثرة لختماته فحسب لا بل الأمر أجل، إنما هو أن نعيش حياتنا ونحن نتذوق حلاوة القرآن، إنما هو أن نعيش حياتنا ونحن نملأ أعيننا وجوارحنا وقلوبنا من آيات القرآن، إنما هو أن نعيش أيامنا ونحن نعمل عقولنا ونستحث أفهامنا في معاني القرآن، إنما هو أن نعيش حياة جديدة ونحن نعصر عيوننا دمعا لطالما جف دهرا، نعصر تلك العيون عند عظات القرآن، دعونا نعيش حياة جديدة ونحن نسرح طرف العين والقلب في كتاب ربنا.
أيها القارئ الكريم مضت سنوات من حياتنا ونحن نختم القرآن، لكن كم آية مرت ما فهمناها، وكم صادعة للجبال الراسيات تلتها ألستنا ولم تتصدع بل قل لم تتحرك لها قلوبنا، أو تقشعر جلودنا.
تأمل كثيرًا ما تجد أن بعض الآيات القرآنية ختمت بقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، {أَفَلا يَعْقِلُونَ}، فالقرآن الكريم يدعونا إلى التفكر في آيات الله، قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24] أما الذين أغلقت قلوبهم وتحجرت عن قبول الحق فقال الله عنهم: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، فإن إستغلاق قلوبهم كإستغلاق الأقفال التي لا تسمح للهواء ولا للنور، فهي تحول بينها وبين الإنتفاع بهدى القرآن. قال ابن القيم رحمه الله: "وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين"، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن.
ألفاظه كعقود الدر ساطعـة *** وآيـة لظـلام الجهـل أقمـار
رقت معانيه إذ دقت لطائفه *** فأمعنت فيـه ألبـاب وأفكـار
كفى به لأولي الألباب تبصرة *** أن أنصفوا وبحكم العقل ما جاروا
به هدى الله أقواما وأيدهم *** فأصبحوا وعلى المنهاج قد ساروا
وتالله ما قلبت الطرف في حياتهم إلا وجدتها مع القرآن حلا وارتحالا، وتدبرا وتفكرا، وبكاءا وتأثرا، فعن أبي هريرة قال: لما نزلت {أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} [النجم: 59-60] بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسهم بكى معهم قال: فبكينا ببكائه، فقال: «لا يلج النار من بكى من خشية الله» [رواه الترمذي].
وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما سورة المطففين حتى بلغ قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فبكى حتى خر وامتنع عن قراءة ما بعدها.
ما أروع المرء عندما يتذكر آيات القرآن الكريم في دقائق يومه، عندما يربط بين تلك الآيات والتوجيهات القرآنية بما يواجهه، فمثلاً: حينما ينزغه الشيطان لمعصية، يتذكر قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201] وإذا أراد القيام بعمل ما حاول جهده أن يتذكر الآيات القرآنية الواردة بخصوص هذا العمل، فالمصلي يتذكر عند صلاته قول الله جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2].
وإذا أصابته مصيبة صبر واحتسب، وتذكر قول الله جل وعلا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] وهكذا، يعيش الإنسان بالقرآن، ويحيا بالقرآن، ويموت على القرآن، وعندئذ يكون من أهل القرآن وخاصته، وكما ورد في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه والدارمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله أهلين من الناس، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته».
أيها القارئ الكريم: لنصدق مع أنفسنا السؤال ما درجة أهمية تدبر القرآن في عقولنا؟ وما نسبة التدبر في واقعنا العملي فيما نقرأه في المسجد قبل الصلوات أو عندما نسمع ما يتلو الإمام؟ وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على التدبر في حِلَق القرآن؟ تُرى: ما مدى إهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ؟ لماذا يكون همُّ أحدنا آخر السورة، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟
أسئلة تبحث عن إجابة ؟