فذكر بالقرآن من يخاف وعيد
القرآن الكريم أفضل كتاب أنزله الله من السماء، وكلام الله فيه، هو خير الكلام وأصدقه وأزكاه، والتذكير بالقرآن من أجلّ أنواع التذكير وأكثره تأثيراً في النفوس، وأرقاه، ولهذا سمّاه الله تعالى ذكراً فقال سبحانه: { إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون }[ الحجر: 9}. ووصفه بذلك كما في قوله سبحانه: { ص والقرآن ذيالذكر }[ص: 1]. بل حصر الغرض من إنزاله في ذلك فقال سبحانه في أكثر من موضع: { إن هو إلا ذكر للعالمين }[ يوسف: 104] أي: عظة وتذكير كما قال أهل التفسير . ووصف المتذكرين به بأنّهم أصحاب العقول الصحيحة والقلوب النيّرة، فقال سبحانه: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكّر أولوا الألباب }[ص: 29].
ولقد امتثل النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمر ربّه بالتذكير بهذا القرآن، فكان يذكّر به أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ومن ذلك أنّه كان يقرأ سورة ( ق ) على المنبر يوم الجمعة مقتصراً عليها، فقد روت بنت حارثة بن النعمان الأنصاري قالت : " لقد رأيتنا وتنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه و سلم واحد، وما أخذت قاف [ يعنى سورة ق ] إلا من فيّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب ".
بل كان قبل ذلك يدعو به الكفّار والمشركين رجاء إسلامهم ، ولعلّهم يخافون ما فيه من الوعيد فقد أخرج الحاكم في مستدركه وأبي يعلى في مسنده، وصححه الذهبي، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : اجتمعت قريش للنبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلّمه، ولينظر ما يردّ عليه. قالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. قالوا : أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال : يا محمّد، أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال : فإن كنت تزعم أنّ هؤلاء خير منك عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنّك خير منهم، فتكلّم حتى نسمع قولك. إنّا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ! فرّقت جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعبت ديننا، ففضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أنّ في قريش ساحراً، وأنّ في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى بأنّ يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى!. أيّها الرجل، إن كان إنّما بك الحاجة؛ جمعنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً. وإن كان إنّما بك الباءة؛ فاختر أيّ نساء قريش شئت فنزوجك عشراً ! قال له رسول الله : " أفرغت ؟ ". قال : نعم. قال : فقال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: " بسم الله الرحمن الرحيم { حم ۞ تنزيل من الرحمن الرحيم } [ فصلت : 1 ـ 2 ] "، حتى بلغ : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }[ فصلت : 13 ]. فقال عتبة : حسبك حسبك، ما عندك غير هذا ؟ قال: " لا " فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلّمون به إلا كلّمته قالوا : هل أجابك ؟ قال : نعم والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا ممّا قال غير أنّه قال : { أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }[ فصلت : 13 ]. قالوا: ويلك ! يكلّمك رجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ قال : لا والله ما فهمت شيئا ممّا قال غير ذكر الصاعقة .
هذا هو حال هؤلاء المشركين المكذّبين، ولهذا قال سبحانه: { ومن أظلم ممّن ذُكّّر بآيات ربّه فأعرض عنها.. }[الكهف: 57]، وفي آية أخرى قال: { ثمّ أعرض عنها .. }[السجدة: 22}، فالأولى فيمن أعرض عنها فور سماعها، فلم يعيها، ولذا قال بعدها: { إنّا جعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً }.
والثانية فيمن أعرض عنها بعد سماعها ووعيها والتأثّر بها على ما تفيده ( ثم ) من الترتيب والتراخي، ولذا قال تعالى بعدها: { إنّا من المجرمين منتقمون }، فهم مجرمون بسماعهم آيات الله، وإصرارهم ـ بعد قيام الحجّة عليهم ـ على جحدها والتكذيب بها خوفاً أو طمعاً، . والله تعالى أعلم . وقوله { فمن أظلم } أي: لا أحد أظلم.
وقد حكى الله اعتراف المشركين بأنّ هذا القرآن ذكر فقال سبحانه: { وقالوا يا أيّها الذي نُزّل عليه الذكر إنّك لمجنون }[ الحجر: 6]، فهم مع اعترافهم بأنّه ذكر إلا أنّهم أبوا إلا التكذيب واتهام الرسول بالجنون، إمّا عناداً منهم واستكباراً، وإمّا سخرية واستهزاءً، مع ما في قرارة أنفسهم من اعتقاد صدق الرسول وما جاء به.
وما أحسن ما وصف به أحدُ صناديد قريش وزعمائها كلامَ الله عزّ وجلّ بعد سماعه والاستمتاع به حيث قال : " والله إنّ لقوله الذي يقول حلاوة، وأنّ عليه لطلاوة، وأنّه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وأنّه ليعلو وما يُعلى، وإنّه ليحطم ما تحته "، ثمّ ما زال به قومه حتى قال: هو سحر، فنزل فيه قوله تعالى: { ذرني ومن خلقتوحيداً } الآيات.. .
فما أحوج الدعاة اليوم والخطباء إلى التذكير بهذا القرآن في مواعظهم وخطبهم بصوت واضح شجي مع بيان معانيه ومراميه، فهو يغني عن الكثير من كلام البشر مهما بلغ من التزويق والتنميق والتشقيق، وهذا لا يعني الاقتصار على القرآن وحده في الوعظ والدعوة، لكن ليجعل الواعظ والداعي في مواعظه وتذكيره نصيباً وافراً من آيات هذا القرآن الكريم، ليحرّك بها القلوب ويحدوها إلى علام الغيوب