أمام غرفة مدير المدرسة..
دخل فارس إلى غرفة المدير مسرعًا...
ومن غير أن يستأذن ويبدو أن الأمر كان عاجلًا وخطيرًا .. وصرخ بأعلى صوته: أستاذ.. أستاذ.. أريد أن أخبرك بشيء هام جدًا.
اعتدل المدير في مجلسه, وأبدى اهتمامًا كبيرًا بفارس, ووضع يده على كتفه وقال: مهلًا.. مهلًا يا بني, ماذا حدث؟ اخفض صوتك وتكلم بهدوء..
فقال الطفل: أريد أن أخبرك أيها المدير بأمر خطير يحدث عندنا في الفصل..
المدير في اهتمام: ماذا يحدث يا بني؟؟
الطفل: لقد رأيت أحد الأطفال في الفصل يسخرون من مدرس الرياضيات, ويلصقون قصاصات على ثيابه مكتوب عليها كلمات فكاهية من حيث لا يشعر, ثم يتنادرون بعد ذلك ويضحكون ويسخرون من مدرسي وأنا أحبه جدًا ولا أحب أن يسخر منه أحد, ولقد حذرتهم مرارًا أني سأخبر المدير ولكنهم كانوا يسخرون من كلامي ولا يعطون له بالًا..
المدير: جزاك الله خيرًا يا فارس أن أخبرتني بهذه المعلومة, وأنا أقدر غيرتك على مدرسك, وأعدك أن أتخذ الإجراء المناسب..
الطفل: جزاك الله خيرًا يا أستاذ..
في الفصل..
أدهم: احذر يا ماجد...
ماجد: ماذا حدث يا أدهم..
أدهم: ادخل سريعًا واجلس في مكانك فالمدير يمر على فصول المدرسة...
وفجأة..
دخل المدير الفصل الذي فيه أدهم وماجد اللذان كانا يسخران من مدرس الرياضيات...
وقف المدير أمام جميع طلاب الفصل..
وقال: السلام عليكم.
رد جميع الأولاد في الفصل بصوت واحد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
فقال المدير: كيف أخبار المذاكرة لقد اقتربت الامتحانات؟؟
فرد الأولاد بصوت واحد: على خير حال يا أستاذ.
قال المدير: إنني واثق أن الذي سيبذل الجهد, هو الذي سينجح في النهاية, بل وسيمن الله عليه بالتفوق, فمن طلب العلا سهر الليالي..
أما الذي سينشغل باللعب, والسخرية من المدرس, خاصة مدرس الرياضيات, فسوف يلقى مصيرًا خاسرًا, وسيبوء بالفشل الذريع, يكفي أنه يسخر من قدوته وأستاذه, كفى بهذا سببًا لفشله ورسوبه, فلقد بلغني أن بعض الأولاد يفعلون ذلك, ولكني لن أذكر أسمائهم, حتى لا أفضحهم, ولكني أطلب منهم أن يعودوا للصواب حتى لا يغضب عليهم الله سبحانه وتعالى لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
ختم المدير حديثه بهذه الآية, ثم أعطى ظهره للفصل بعد أن ألقى على الطلاب السلام, ثم انصرف.
ووفق أدهم وماجد مذهولين, لا يتكلم واحد منهما ببنت كلمة, وكأنما أخرست ألسنتهم.
ولكن بعد انتهاء الدرس اتفق كل من ماجد وأدهم أن يذهبا إلى مدرس الرياضيات ليعتذروا إليه, ويذهبا أيضًا إلى المدير ليشكراه على نصيحته الغالية..
المربي الذكي يستخدم التعريض لا التجريح..
عزيزي المربي..
لقد كان بوسع المدير أن يدخل الفصل ويمسك العصا ويضرب كل أفراد الفصل, أو أن يضرب ماجد وأدهم ويجبرهم على الاعتذار لمدرس الرياضيات أمام كل الفصل..
ولكنه المربي الذكي يختار التعريض قبل التجريح, والحوار قبل الصدام, والنقاش قبل الصراخ, هذه هي إحدى وسائل التربية الناجحة التي يحسن بكل مربي أن يختارها وسيلة في التربية مع أولاده..
(فلابد للأبوين ممارسة عملية النقد تجاه طفلهما، فالأمور لن تسير دائمًا على مايرام، لكن المشكلة أننا أثناء ممارسة النقد كثيرًا ما نتجاهل كيان الطفل، ونظن أن من المفروض عليه ـ بحكم قرابتنا له وقيامنا على شئونه ـ أن يستمع ويمتثل لكل ما نقوله له، وهذا غير صحيح، فالطفل يمتلك مشاعر فياضة وعقلانية قليلة، ومن هنا فعلينا أن نقلل من الوعظ المباشر والنقد الحاد ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا، فنحن لا نريد أن نحطم كبرياء الطفل في سبيل تقويمه، إن التلميح والنصيحة غير المباشرة يؤديان إلى الإصلاح الذي ننشده، مع ترقيتهما لمدارك الطفل، على حين أن التقريع المستمر يفقده ثقته بنفسه) [دليل التربية الأسرية، أ.د. عبد الكريم بكار، ص(166)].
ولتعلم عزيزي المربي أنك إن فهمت نفسية ابنك ـ بالذات من بدأ في مرحلة المراهقة ـ لما لجأت للتجريح، فإن أردت أن تعلم كيف يفكر ابنك، فاسمع إلى د.سبوك ينبأك عن أبنائك أنهم (يشعرون بأن أحد مظاهر حب الوالدين أن يحموا أطفالهم من سوء الفهم والمواقف المحرجة التي تواجههم في العالم الخارجي، ومن إعطاء انطباع خاطئ واكتساب سمعة سيئة، ومن التورط في مشكلات؛ فإن استخدمت التقريع المباشر ـ المهين ـ عدَّ ابنُك ذلك نقصانًا في حبك له!!) [دليل الوالدين لتنشئة الأطفال، د.سبوك، ص(212)].
ما بال أقوام قالوا كذا وكذا, هذا هو الأسلوب نفسه الذي استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته الكرام..
فالنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب يحفظ ماء وجه المخطئ, ويدفعه إلى تصحيح خطئه دون أن يفضحه أمام الناس.
فاعلية التعريض
عندما استخدم المدير أسلوب التعريض مع الأطفال كانت النتيجة أن حفظ المدير للطفل شخصيته, ولم يتسبب في إهانتها أمام الناس, حتى لا يتسبب ذلك في عقد نفسية فيما بعد.
كما أن هذا الأسلوب أدى إلى زيادة الثقة الترابط بين المدير والأطفال, وكذلك المحبة, وذلك لأن الطفل يحب الطمأنينة والارتياح النفسي إذا عالج مدرسه أو والده خطأه دون أن يفضحه أمام الناس أو أمام إخوانه، كما أن هذا الأسلوب سوف يصحح أخطاء تربوية موجودة عند أطفال آخرين لم يكونون هم المقصودين بالتعريض.
(فالمربي حين يعمل على التشهير بولده عند الزلة الأولى، وفضحه أمام إخوته بحجة التوجيه، أو يسبه بكلمات نابية، وربما يحدث ذلك أمام الأصدقاء بهدف الإصلاح ولمنعه من الخطأ مرة أخرى؛ فذلك يرسخ في قلب الصبي التمرد والشعور بالنقص) [بناء مستقبل الأمة، شريف عبدالعزيز الزهيري، ص(65)].
ويقول صاحب كتاب الفطرة السليمة موضحًا أهمية الهدوء في تغيير سلوك الطفل قائلًا: (حين نسأل آباء آخرين عما يفعلونه حين يجتاحهم الغضب، فإنهم عادة ما يقولون إنهم يصيحون أو يسبون أطفالهم، والبعض يقول إنهم يضربون شيئًا ما، ويلقون أو يركلون الأشياء ... ولكن هذه الاستجابات توقف المشكلة السلوكية بشكل مؤقت، وما الذي تعلمه أطفالهم؟ تعلموا الصياح، والضرب، وإلقاء أو ركل الأشياء حين يعتريهم الضيق)!! [تربية الأبناء بالفطرة السليمة، د.راي بيرك، رون هيرون، ص(91)].
وبهذا يكون هذا الأسلوب أيها المربي الفاضل ذو فاعلية عالية.
ويكون دليلًا على ذكاء المربي وحلمه وصبره.