ما لا يعرفه الجزائريون عن طفولة رئيسهم الراحل
من الأقدام الحافية إلى زعامة العالم الثالث
لم تكف 32 سنة كاملة عن رحيل هواري بومدين لفك الكثير من الألغاز التي تلف شخصيته.. حتى أقرب الناس إليه من أهل وأصدقاء أقسموا بالله بأنهم يجهلون الكثير من الخصوصيات حتى لا نقول كلها؛ وإذا كان الجميع من الذين عرفوا الرجل يشهدون عن طفولته الصعبة وشخصيته القوية منذ نعومة أظافره فإن المدهش أن أبناء إخوته مازالوا يؤمنون بأن التطرق إلى خصوصيات الرجل من الطابوهات التي لا يجب أن تكسر مدى الحياة!!..وعلى الرغم من ذلك فقد حاولنا العودة إلى طفولة الزعيم الراحل التي تعتبر واحدة من حلقات تاريخ الجزائر، والتي جمعناها من شهادة أحد زملائه في مقاعد الدراسة ويتعلق الأمر بالشيخ «مصطفى سريدي» على هامش أشغال الملتقى الثاني لذكرى رحيل هواري بومدين والذي نظمته جمعية الوئام للثقافة والترفيه ببلدية «هواري بومدين» دائرة «عين احساينية» على مدار يومين كاملين تخليدا للذكرى.
صاحب العيون الزرقاء والشعر الأشقر
يحتفظ الجزائريون في مخيلتهم بصور بالأبيض والأسود لرئيسهم الراحل هواري بومدين وهي صور لرجل عبوس تخفي عيونه الزرقاء وشعره المائل إلى الاحمرار، وكان أترابه ينادونه «الروجي»، ولد «محمد بوخروبة» في 23 أوت 1932 (78 سنة لو مازال على قيد الحياة) بمشتة «العرعرة» بدوار بني عدي ببلدية عين احساينية سابقا، والتي أصبحت الآن تابعة لبلدية «مجاز عمار» التي تقع على بعد 17 كيلومتر غرب ڤالمة، كما أن عين احساينية تغير اسمها حاليا لتحمل اسم الراحل «هواري بومدين». والده يدعى إبراهيم بوخروبة وهو فلاح بسيط وأمه من ذات المنطقة تدعي «تونس بوهزيلة»، وأنجبت إضافة إلى محمد، ابنين من الذكور وأربع بنات توفوا جميعا، وأثقل هذا العدد من الأبناء كاهل الأب، فكانت عائلة بوخروبة من أفقر عائلات المنطقة وقد يكون ذلك هو سبب تقاسيم الحزن والصرامة المرسومة دائما على وجه الفتى «محمد» وقلة الكلام التي تطبع ظهوره، وعندما بلغ محمد سن الرابعة دخل المدرسة القرآنية القريبة من مشتة «العرعرة» وفي سن السادسة أي عام 1938 التحق بمدرسة «آلومبير» بوسط مدينة قالمة، والتي أصبحت تحمل الآن اسم إكمالية «محمد عبده»، ومن هذه المدرسة أخذنا شهادات رفيق دراسته الأستاذ «سليمان بن عبدة» و«الحاج مصطفى سريدي».
كان يمشي حافيا و«قشابية» الصوف لا تفارقه
انضم محمد بوخروبة مع أترابه لمدرسة «آلومبير» الابتدائية عام 1938، كانت هذه المدرسة مقسمة إلى قسمين، القسم الأول خاص بأبناء المعمرين «الكولون» وأبناء الأعيان والأغنياء، والقسم الثاني للأهالي من عامة الناس. وكان طبيعيا أن يكون محمد في القسم الثاني ومع ذلك كان يدرسه معلم فرنسي يدعى «سيغالا» الذي تم استدعاؤه في منتصف العام الدراسي لأداء الخدمة العسكرية فاستخلفه معلم فرنسي آخر يدعى «لوروا» وهو المعلم الذي لاحظ أن «محمد» سابق لجيله، إذ يتجاوز الامتحانات جميعها بسهولة أدهشت «لوروا» الذي لاحظ أيضا أن هذا التلميذ الذكي والنجيب يحضر إلى المدرسة حافي القدمين وقشابيتة الصوفية لا تغادره، ومع ذلك يبدو أنيقا رغم غياب الحذاء من قدميه.أما الجلابة من الصوف (قشابية) التي كان يرتديها، فنسجتها له والدته بالدشرة التي تقيم فيها عائلته بدوار بني عدي، ولأن محمد بوخروبة كان أطول أترابه وزملائه بالقسم الابتدائي فقد كانت القشابية جد لائقة عليه وزاد لونها البني في جمال الطفل الأشقر البشرة الذي كان يظهر ورغم صغر سنه أنيقا، ينظر بعيون حادة ويسير بروح يقظة على الدوام وعلى الرغم من كل الظروف الصعبة التي كان يعيشها مع عائلته الفقيرة.
ختم القرآن ودرّسه لأبناء قريته
في شهادته يقول الشيخ «مصطفى سريدي» أن الدراسة بالمدرسة الفرنسية لم تمنع الطفل محمد من مواصلة حفظ القرآن حتى ختمه، وأخذ في أوقات العطلة المدرسية يعلمه لأبناء قريته من أترابه الذين لم يسعفهم الحظ في الالتحاق بالكتاب أو المدرسة، وقد كان محمد وبإصرار منه على إتمام حفظ القرآن يتحايل على معلميه في المدرسة الفرنسية بأن يضع دفترا سبق وأن كتب عليه آيات قرآنية وسط كراس الفرنسية، وعندما ينهمك المعلم في تحضير الدروس أو تصحيح الكراريس، يقوم محمد بقراءة القرآن سرا دون أن يكتشف أحدا أمره سوى زميله «سليمان بن عبدة» الجالس بجانبه على نفس الطاولة، بينما يكون المعلم غافلا جالسا بمكتبه، وهذا التصرف يؤكد أن «محمد بوخروبة» الفتى اعتاد على عدم تضييع أي شيء من وقته، لأنه كان يعلم حجم معاناته جراء بعده عن أسرته المقيمة بدور بن عدي بعيدا ببضع كيلومترات عن مدينة قالمة التي كان يقيم بها عند إحدى العائلات مقابل أن يدفع لها والده الفلاح البسيط شيئا من المؤونة والغذاء، خاصة القمح والشعير والخضروات التي كان يجنيها من حقول الأراضي التي تملكها العائلة بدوار بني عدي، وقد أتم حفظ القرآن الكريم في العطلة الصيفية لسنة 1947 عندما كان ماكثا بدوار بني عدي، وعند عودته لمتابعة دراسته بالسنة الثالثة متوسط بمدرسة «آلمبير» خلال شهر أكتوبر 1947 كان محمد قد صبغ أصبعه بالحناء وحمل معه كمية من «البراج» وهو «المقروط» المصنوع بزيت الزيتون والتمر المعجون ووزعه على بعض أصدقائه الجزائريين بالقسم بمناسبة ختمه لحفظ القرآن وقد رافقه يومها إلى عتبة المدرسة والده إبراهيم الذي حمله على ظهر بغله من دوار بني عدي إلى المدرسة.
كان يرفض أن يضربه المعلم الفرنسي
كان صغيرا ولم يبلغ مرحلة التمحيص بعد، إلا أن محمد بوخروبة كان يتميز بقوة خارقة للشخصية، حيث أنه كان مواظبا على حفظ دروسه وأداء واجباته المنزلية حتى لا يتيح أية فرصة للمعلمين الفرنسيين كي يمدوا أيديهم عليه بالضرب أو يوجهوا إليه أية كلمة جارحة تمس بكرامته، ويتذكر العديد من أصدقائه وزملائه في القسم التأهيلي الثالث عندما لم يقم محمد بمراجعة أحد الدروس، وعندما دخل القسم كان يترجى من الله ألا يسأله المعلم حتى لا يحرجه ويضربه، لكن وما هي إلا دقائق قام خلالها المعلم باستجواب عدد من التلاميذ بخصوص الدرس وبذكاء خارق تمكن «محمد بوخروبة» من حفظ الدرس الذي لم يراجعه وبدأ برفع إصبعه بغية المشاركة في الحصة، وقد جلب ذكاؤه وتفانيه في الدراسة انتباه واهتمام معلميه في الطور الابتدائي، خاصة وأنه كان يتحصل دوما على النقاط الجيدة في امتحانات كل نهاية سنة ولم يسقط ولا مرة واحدة في الدراسة. يؤكد الأستاذ «سليمان بن عبدة» أن زميله في القسم الابتدائي محمد بوخروبة كان يتميز بالأنفة والكرامة، وأنه لم يضع يوما قدميه في المطعم المدرسي المخصص للتلاميذ المعوزين وأولئك الذين يقطنون خارج مدينة قالمة، حيث أنه وعلى الرغم من ظروفه الصعبة، كونه من عائلة بسيطة ماديا ويقطن خارج المدينة، إلا أنه وفي مطلع كل سنة دراسية كانت إدارة المدرسة تقوم بتسجيل أسماء التلاميذ الفقراء وأولئك الوافدين من أماكن بعيدة خارج المدينة، إلا أنه كان يمتنع عن تسجيل اسمه ضمن القائمة حفاظا على كرامته على الرغم من أن لديه كامل الحق في ذلك، كونه يقيم بدوار بن عدي بعيدا عن المدينة.
وقد كان التلميذ محمد بوخروبة مثابرا وتلميذا ممتازا، يفكر في كل شيء بوعي كبير، وقد جعلته ظروفه الاجتماعية الصعبة كونه ينحدر من عائلة ريفية بسيطة يهتم بكل شيء ولا يضيع شيئا من ممتلكاته إلى درجة التقشف، ولأن التلميذ المجتهد والأول في قسمه في مختلف المواد، كان يتلقى بعض المأكولات الشعبية التي ترسلها له والدته في المناسبات، خاصة منها البراج والكسرة والرفيس وغيرها وهي المأكولات التي كان محمد يحبها ويشتهيها إلى درجة تفضيله لها على باقي أنواع المأكولات، خاصة إذا احتسى معها لبن البقر الصافي، كما أنه كان يستهلك هذه المأكولات لأطول فترة ممكنة، كما أنه كان دائما يحمل بجيبه حبات من التمر، ولعل أكثر شيء يحن له محمد بوخروبة منذ الصبا هي الحياة البسيطة وأكل رغيف من صنع يدي أمه (تونس) رحمها الله، وقد كبرت فكرة التقشف لدى الطفل إلى درجة عدم تضييعه حتى للوقت واستغلاله له في ما هو مفيد كحفظ القرآن الكريم الذي ختم حفظه خلال صائفة سنة 1947 أي في السنة الخامسة عشرة من عمره ومنذ ذلك التاريخ أصبح أترابه ينادونه ب «سي محمد».
لقد كان «محمد بوخروبة» في هندامه وتعاملاته رجلا منذ الصبى، حيث تؤكد تصريحات زميله «سليمان بن عبدة» والذي عاش معه طيلة مرحلة الطفولة أنه لم يسمعه يوما يئن من الألم ولم يسمعه يوما يشتكي من الجوع أو البرد أو العطش أو غير ذلك من المصاعب، حيث أنه كان صبورا ويتحلى بروح قوية والأهم من كل ذلك صبره على والديه اللذين ابتعد عندهما وعمره لم يتجاوز السادسة عشرة عندما رحل إلى مدينة قسنطينة لمزاولة دراسته بثانوية الكتانية ومنها إلى جامع الزيتونة بتونس، ثم رحلته الطويلة إلى القاهرة بمصر والتي رحل إليها ماشيا على الأقدام، مستعينا بتوقيف السيارات لحمله ولو لمسافة قليلة، وللرجل حكايات أخرى بمدرسة الكتانية بقسنطينة، حيث احتضنه الشيخ الطيب البالغ من العمر حاليا (95 سنة) وهو أحد تلاميذ الشيخ بن باديس، احتضن بومدين في الكتانية وعلمه العربية والقرآن الكريم قبل تنقله إلى جامع الزيتونة، والشيخ الطيب حضر من بريكة إلى قسنطينة في العشرينيات لأجل التتلمذ على يد بن باديس. ومن بين مميزات الراحل هواري بومدين أنه كان لا ينسى أساتذته، فعندما أصبح رئيسا وزار قسنطينة طلب ملاقاة الشيخ الطيب، وطالب أيضا بتكريمه وحتى عندما زار الشيخ الطيب الذي تتلمذ على يديه أيضا رابح بيطاط.. حتى عندما زار العاصمة عام 1976 تحدث مع قيادة حزب الأفلان وبالتحديد مع محمد الصالح يحياوي ومكنه من ملاقاة هواري بومدين الذي أكرم أستاذه ووضع سيارة خاصة تحت تصرفه لتقله إلى أهله بالعاصمة، وقد أجمع أتراب بومدين من الذين عاشروه في طفولته أن ذكاء الطفل كان خارقا، وكرمه بعد بلوغه القمة أيضا كان خارقا، حيث كان محل جدل منذ التحاقه بالثورة التحريرية انطلاقا من منصبه كقائد للولاية الخامسة بغرب الجزائر سنة 1957 ثم توليه قيادة الأركان سنة 1959. قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية الجزائرية خلال شهر جوان من سنة 1965 أين قاد جملة من الثورات وحتى بعد وفاته لازال الجدل قائما بشأن شخصية هذا الرئيس وطريقة وفاته التي لا زالت لغزا قد تكشفه الأيام أو السنوات القادمة.
نبيــل طـلـحي عن الايام الجزائرية 29/ 12 / 2010